حاصل هذه الشبهة، تقول: " كيف يكون القرآن عربيًّا مبينًا، وقد تضمن كلمات أعجمية كثيرة؛ من فارسية،وسريانية، وعبرية، ويونانية، وحبشية، وغيرها ؟" من أمثال الكلمات التالية: أباريق،إبراهيم، استبرق، إنجيل، توراة،
حاصل هذه الشبهة، تقول: " كيف يكون القرآن عربيًّا مبينًا، وقد تضمن كلمات أعجمية كثيرة؛ من فارسية،وسريانية، وعبرية، ويونانية، وحبشية، وغيرها ؟" من أمثال الكلمات التالية: أباريق،إبراهيم، استبرق، إنجيل، توراة، زنجبيل، سجيل، طاغوت، عدن، فرعون، فردوس، ماعون،مشكاة، ونحو ذلك من الكلمات .والرد على هذهالشبهة يتضح من خلال النقاط التالية:
- أولاً: إن التوافق والتداخلوالاشتراك بين اللغات في بعض الكلمات، أمر شائع ومعروف ومألوف، وهو أمر قد قررهدارسو علم اللغات أنفسهم قديمًا وحديثًا؛ فاللغة العبرية تشتمل على عدد غير قليل منالكلمات التي أصلها عربي، ومع ذلك لا يقال عن الناطق بتلك اللغة: إنه لا يتكلمالعبرية؛ وكذلك الشأن في اللغة التركية، إذ تحتوي على العديد من المفردات التيأصلها عربي، ومع ذلك لم يقل أحد عنها: إنها ليست لغة تركية؛ وأيضًا فإن اللغةالسريانية، تعد عند علماء اللسانيات شقيقة اللغة العربية في مجموعة اللغات السامية،وهي تشترك مع العربية في كلمات وعبارات وقواعد واشتقاقات كثيرة، ليس هذا مكان الخوضفيها. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يقال في الكلمات المشتركة والمتداخلة بين اللغات: إن لغة ما أخذتها من الأخرى. ومثل هذه الكلمات المشتركة والمتداخلة يوجد الكثيرمنها في لغات العالم، وخصوصًا بين الشعوب المتجاورة، وذات الأصل الواحد القريب،ومنها اللغات: ( التركية، والكردية، والفارسية ) فلديها كلمات مشتركة كثيرة؛ وكذلكبالنسبة إلى اللغات التي أصلها لاتيني، كاللغة الفرنسية والإسبانية، واللغات التيأصلها جرماني، كاللغة الإنكليزية والألمانية .
- وثانيًا: إن التلاقح بيناللغات والتفاعل فيما بينها عبر العصور والأزمان، أمر واقع ومقرر؛ ومسألة التلاقحوالتفاعل بين اللغة العربية واللغات الأخرى مسألة ليست وليدة اليوم، إنما ترقىجذورها إلى العصور الزمنية التي سبقت دعوة الإسلام؛ فقوافل العرب التجارية كانت تشدرحالها في الصحراء قاصدة اليمن والحبشة وبلاد فارس؛ وكثير من الشعراء العرب كانواينـزلون بلاطات حكام تلك البلدان، على نحو ما يُذكر من أخبار اتصال النابغةالذبياني ( ت 604م ) و الأعشى الأكبر ( ت 629م ) بحكام الأمارة الغسانية المتاخمةلبلادهم، واتخاذ ملك الفرس "ابرويز" تراجمة له من العرب، مثل عدي بن زيد ( ت 587م ) الذي كان مقيمًا في الحيرة .
ونحن نعلم أن التلاقح والتفاعل، أمر مألوفومشهود بين لغات الناس اليوم؛ فاللغات الأجنبية أخذت من اللغة العربية مفردات حافظتعلى ألفاظها الأصلية إلى حدود معينة؛ فاللغة الإنجليزية - مثلاً- أخذت عن العربيةمفردات منها: ( Alembic ) التي أصلها "الأمبيق" و ( cipher ) التي أصلها "الصفر" و ( Alcohol ) التي أصلها "الكحول" و (Chemise ) التي أصلها "القميص" و ( Emir ) التيأصلها " أمير". وكلمة ( satan ) "الشيطان" أصلها عبراني، واللغة العبرانية والعربيةمن فصيلة اللغات السامية، فأصلهما واحد. وأيضًا فإن اللغة العربية قد أثرت في اللغةالإسبانية، التي احتفظت بكلمات ذات أصول عربية بعد انكفاء العرب عن أرض الأندلس،منها: ( Alferez ) وتعني الملازم، وأصلها العربي "الفارس" و ( Aceite ) التي أصلها "الزيت" و ( Atalaya ) التي أصلها "الطليعة"؛ فإذا كان هذا الأمر واقعًا ومعروفًافي لغات الناس اليوم، فما الذي يمنع من أن يكون موجودًا فيما مضى من العصوروالأزمان، بل أليس ما هو واقع اليوم دليلاً واضحًا على ما قد وقع بالأمس، إذ ظاهرةالتفاعل بين اللغات - كما يقرر علماء اللغات - سنة ثابتة من سنن الاجتماع البشري،التي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الأحوال والأزمان، وإذا تقرر هذا، كان دليلاًوشاهدًا على ضعف هذه الشبهة وركاكتها، إذا وزنت بميزان العلم، أو قيست بمقياسالواقع .
- وثالثًا: إن ظاهرة التعريب في كلام العرب، ظاهرة مقررة عند أهلالعربية؛ والتعريب ليس أخذًا للكلمة من اللغات الأخرى كما هي ووضعها في اللغةالعربية، بل التعريب هو: أن تصاغ اللفظة الأعجمية بالوزن العربي، فتصبح عربية بعدوضعها على وزان الألفاظ العربية، أو - حسب تعبير أهل العربية - وضعها على تفعيلة منتفعيلات اللغة العربية، وإذا لم تكن على وزان تفعيلاتها، أو لم توافق أي وزن منأوزان العرب، عدلوا فيها بزيادة حرف، أو بنقصان حرف أو حروف، وصاغوها على الوزنالعربي، فتصبح على وزان تفعيلاتهم، وحينئذ يأخذونها. يقول سيبويه في هذا الصدد: ( كل ما أرادوا أن يعربوه، ألحقوه ببناء كلامهم، كما يُلْحقون الحروف بالحروف العربية ) (الكتاب:4/304). ويقول الجوهري في صدد تعريف هذه الظاهرة: ( تعريب الاسم الأعجمي: أن تتفوه به العرب على منهاجها ) (الصحاح: مادة عرب ) وقد أفرد ابن دريد في كتابه "الجمهرة" بابًا بعنوان: ( باب ما تكلمت به العرب من كلام العجم حتى صار كاللغة ) ومما جاء فيه قوله:...فمما أخذوه من الفارسية البستان والبهرجان إلخ... وعلى هذا،فاشتمال القرآن على ألفاظ مأخوذة من اللغات الأخرى؛ كاشتماله على لفظ ( المشكاة ) وهي لفظة هندية، ومعناها: الكوة، وعلى لفظ ( القسطاس ) وهي رومية، ومعناها: الميزان، وعلى لفظ ( الإستبرق ) وهي فارسية، ومعناها: الديباج الغليظ، وعلى لفظ ( سجيل ) وهي فارسية، ومعناها: الحجر من الطين، وغير ذلك من الكلمات؛ نقول: إن اشتمالالقرآن على أمثال هذه الكلمات، لا يخرجه عن كونه نزل { بلسان عربي مبين } لأن هذهالألفاظ قد عُرِّبت، فصارت كلمات عربية، فيكون القرآن مشتملاً على ألفاظ معربة، لاعلى ألفاظ غير عربية؛ فاللفظ المعرَّب عربي، كاللفظ الذي وضعته العرب، سواء بسواء. وإذا كانت ظاهرة التعريب أمرًا ثابتًا، وضرورة من ضروريات حياة اللغة العربيةنفسها، فلا يعول بعد هذا على من ينكر هذه الظاهرة، أو يقول بقول مخالف لما تقرره .
- ورابعًا: مما يدفع هذه الشبهة من أساسها، واقع الشعر الجاهلي نفسه؛ فقداشتمل هذا الشعر على ألفاظ معربة من قبل أن ينزل القرآن؛ مثل كلمة ( السجنجل ) وهيلغة رومية، ومعناها: المرآة؛ وقد وردت هذه الكلمة في شعر امرئ القيس ، في قوله فيالمعلقة:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجلوكذلككلمة ( الجُمان ) وهي الدرة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عُرِّب،وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
وتضيء في وجه الظلام منيرة كجمانةالبحري سلَّ نظامهاومن هذا القبيل أيضًا كلمة ( المهارق ) جمع مهرق، وهيالخرقة المطلية المصقولة للكتابة، وهو لفظ فارسي معرب، وقد جاء في قول الحارث بنحِلِّزة في معلقته:
حَذَرَ الجَوْرِ والتعدي وهل ينـ قض ما في المهارقالأهواء ؟وقد عرَّبت العرب هذه الكلمات وأمثالها، وأصبحت من نسيج كلامها. وعلى قياس ما تقدم، يقال في كلمة: ( التخت ) وهو: وعاء تصان فيه الثياب، أصلهفارسي، وقد تكلمت به العرب. ولفظ ( الكوسج ) وهو: الذي لا شعر على عارضيه، وقالالأصمعي: هو الناقص الأسنان، أيضًا هو لفظ معرب؛ قال سيبويه: أصله بالفارسية كوسه. ومن هذا القبيل لفظ ( الجُدَّادُ ) وهو: الخُلقانُ من الثياب، وهو معرَّب. وغيرهامن الكلمات عند كثير من شعراء الجاهلية. فإذا كان التعريب أمرًا معهودًا عند فحولشعراء الجاهلية أنفسهم، وما عربوه من كلمات قد أصبح لُحمة من لسان العرب، فلا يقالبعد هذا: إن القرآن قد اشتمل على ألفاظ أعجمية غير عربية .
- وخامسًا: أنالعرب الذين عاصروا نزول القرآن، وعارضوا دعوة الإسلام، لم يُعرف منهم، ولم ينقلعنهم أنهم نفوا عن تلك الألفاظ أن تكون ألفاظًا عربية، وهم كانوا أولى من غيرهم فينفي ذلك لو كان، وهم أجدر أن يعلموا ما فيه من كلمات أعجمية لا يفهمونها، أو ليستمن نسيج لسانهم العربي المبين، ولو كان شيء من ذلك القبيل، لوجدوا ضالتهم في الردعلى دعوة الإسلام، ومدافعة ما جاء به القرآن؛ أَمَا وإنهم لم يفعلوا ذلك، فقد دلذلك على تهافت هذه الدعوة، وسقوطها من أساسها جملة وتفصيلاً.
- وسادسًا: إنالناظر في تلك الألفاظ القرآنية، والتي قيل عنها: إنها أعجمية، يجد أنها في أكثرهاهي من باب الأسماء والأعلام؛ وقد اتفقت كلمة علماء اللغات قديمًا وحديثًا، أن أسماءالأعلام إنما تُنقل من لغة إلى أخرى كما هي، ولا يخرج اللغة التي نُقلت إليها تلكالأسماء عن أصلها وفصلها الذي اشتهرت به؛ فنحن - مثلاً - كثيرًا ما نسمع فى نشراتالأخبار باللغات الأجنبية، أنها تنطق الأسماء العربية نطقًا عربيًا، ومع ذلك لايقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلاً، لمجرد أن بعضالمفردات فيها قد نطقت بلغة أخرى .
- وسابعًا: لو تتبعنا الألفاظ المعربةالتي وردت في القرآن، لوجدنا أن مجموعها لا يساوي شيئًا، قياسًا بما تضمنه القرآنمن كلام العرب ولسانهم؛ والقليل النادر لا حكم له، ولا يقاس عليه؛ فالمؤلفاتالعلمية والأدبية الحديثة، التى تكتب باللغة العربية اليوم، ويكثر فيها مؤلفوها منذكر الأسماء والمصطلحات الأجنبية، ويكتبوها بالأحرف الأجنبية، لا يقال عنها: إنهامكتوبة بغير اللغة العربية، لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية قد وردت فيها. فإذا كانالقليل النادر لا يخرج الكثير الشائع عن حكمه وأصله؛ فهل يصح - والحال كذلك - أنيقال: إن القرآن تضمن كلامًا أعجميًا غير عربي ؟وبعد، فقد أتينا فيما مضىمن حديث، على أدلة تثبت سقوط هذه الدعوى من أساسها، وأوضحنا لمن قصد الوقوف علىالحق، وطلب معرفة وجه الحقيقة، أنه ليس في القرآن إلا كلام عربي مبين، غير ذي عوج،وأنه لا يوجد في القرآن كلام خارج عن نسيج كلام العرب وسَنَنِها .
لا يمكنكم مشاهدة باقي المشاركات لأنك زائر ..
إذا كنت مشترك مسبقاً معنا .. فقم بتسجيل الدخول بعضويتك المُسجل بها
للمتابعة و إذا لم تكن كذلك فيمكنك تسجيل عضوية جديدة
مجاناً (
من هنا )