عندما ندقّ أجراس الإنذار معلنين بداية الاختبار أعود بذاكرتي للوراء.. عندما كنت طالبا. كنا نستنفذ الطاقات، ونكثف الجهود، ونختزل الأوقات لأجل إعطاء هذا الحدث جلّ وقتنا حتى وإن كان على
عندما ندقّ أجراس الإنذار معلنين بداية الاختبار أعود بذاكرتي للوراء.. عندما كنت طالبا.
كنا نستنفذ الطاقات، ونكثف الجهود، ونختزل الأوقات لأجل إعطاء هذا الحدث جلّ وقتنا حتى وإن كان على حساب نومنا وأكلنا وشربنا.
وكل ذلك يعكسه ما نحصّله من درجات، وما نناله من امتيازات، فيقطف منا المجدّ ثمرته على قدر اجتهاده وتعبه.. نعم كذا كنا.
واليوم نجد البون الشاسع والفارق الكبير بين أجيال اليوم وأجيال الأمس.. فالمعلم يدخل الصف شارحا مادته بكل اقتدار، ملما بما استجدّ من طرق تدريس، مدعما درسه بالوسائل، حريصا على التماس الجانب النفسي للطلبة، مراعيا الفروق الفردية، وما أن يحين موعد الاختبار يكون المعلم قد قلب الكتاب مع الطلبة رأسًا على عقب مراجعا لدروسٍ سابقة، وشرحًا لمسائل مبهمة، واختصارًا لمواضيع مفصلة، ثم تأتي الأسئلة مقننة حسب الطلب، من كل بستان زهرة.. ولأنّ نفسية الطالبة في القمة لذلك يراعى خلال وضع الأسئلة وضوح الخط، وجودة التصوير، وقلّة المطاليب، وتنوع الأسئلة الموضوعية، و..، و.. ثم ماذا!!
عند التصحيح نرى العجب العجاب.. فالإجابات ركيكة ومتآكلة؛ عجز في التعبير، وقلة في التركيز، يكاد الطالب لا يفقه ما يكتب، فالأجوبة أشبه ما تكون بالخربشة، نتأمل المرحلة الدراسية التي وصلت إليها الطالبة فنزداد تعجبًا..
أين أثر التعليم على الطالب طيلة تلكم السنوات؟!!!.. لم نعد نرى التميز الذي كنا نلمسه من قبل.. بل إنّنا أصبحنا نلحظ تدني مستويات التفكير، وتقلّص نسب الذكاء لدى الطلبة جيلًا بعد جيل.. وهذا ما أقلقنا حقيقة..
إنّ التجديد في العطاء أمر ضروري بل هو المحور الأساسي في العملية التربوية.. وكلنا يسعى إلى رفع مستوى التعليم بشتى الوسائل الممكنة.. ولكن ما أردت إيضاحه والإسهاب في بيانه هو أن مقياس الاختبارات اليوم لم يعد راجح الكفة.. فلم نعد نراه يقيس المستوى العقلي والجهد المبذول بصدق كما كان يقيسه بالأمس.. لم يا ترى؟!!!.. ما هو الفرق بين جيلنا وجيلهم؟!!!
- المناهج هي المناهج.. بل ربما طوّرت وحسّنت.
- المعلم.. لا يشك عاقل.. بل لا يختلف اثنين على أنّ التعليم في وقتنا صار كثير التبعات، وأنّ المعلم صار متعدد الالتزامات، ودرجة الرقابة شُدّدت عليه أكثر من ذي قبل، فبذل المعلم بالتالي تضاعف، وعطاؤه ازداد..
- الطالب.. طالب اليوم لم يعاني ما عانه طالب الأمس.. طالب الأمس واجه شظفًا في العيش وقسوة في الظروف بينما طالب اليوم يعيش جوًا من الرفاهية ليس له مثيل، بل إنّ الفراغ لديه أضحى مشكلةً في حد ذاته، الإمكانات المادية متاحة.. لا منغصات.. لا مسئوليات.
- الوالدين.. بالأمس يندر أن تجد أمًّا قارئة فضلًا أن تكون متعلمة، بينما في هذا الجيل تكاد تنعدم شريحة الأمهات الأميّات.. فالحال يدلّ على ازدياد نسبة الوعي داخل البيوت.. فطالب اليوم لن يقف حائرا ولن يشعر بالإحباط كما شعر طالب الأمس.. فكلّ مشكلة لديها ستجد لها حل.. فالأب متعلم.. والأم متعلمة.
إذًا.. أين تكمن المشكلة؟!!.. وأين يوجد الخلل؟!!!...
على الرغم من هذه الأجواء المشجعة على العلم والتعليم نجد الهبوط الشديد في التحصيل، والتدني الهائل في القدرات العقلية.. وبعد تفكيرٍ وتمحيص، وبحثٍ وتنقيب عن أسباب هذه المعضلة، وجدنا أنّ أصابع الاتهام بدأت تتوجه أولًا وقبل كل شيء إلى المؤسسة التربوية الأولى في حياة الطالب، والتي تعدّ أقوى مؤسسة تربوية على الإطلاق.. (الأسرة).. فنجده يعامل على أنّه طفل، يكبر ويبلغ ويشتدّ عوده وهو لا يزال في نظر والديه طفل، لا توكل إليه مسئولية، ولا يكلّف بعمل، محاصر بالدلال، محاط بالرفاهية، فـقل إنتاجه العملي وهذا بدوره أثر تأثيرًا بالغًا على إنتاجه العقلي وإنجازه العلمي، لذلك نراه ـ وهذا أمر ملموس ـ يضيق ذرعًا إذا كثرت عليها الدروس، ويكتئب إذا زاد عليه الضغوط التي تعتبر طبيعية لمن هم في مثل سنه.. لماذا؟!!
لأنّه واجه ما خالف طبيعته، وغيّر نظام حياته التي اعتادت عليه أو بمعنى أصحّ عوّد عليه..
ثانيًا/ تقليص أهمية العلم.. فنجد أنّ اهتمام الأهل انحصر في حجم التحصيل الدراسي متناسين الهدف الأصلي من التعليم وهو الرقي بالمستوى العقلي والديني والتربوي والأخلاقي للدارسة.. فـنجد الطلبة ـ وهذا أمر محزن ـ قد خرجو من المدارس كما دخلو غير أنّ مسمى المرحلة يختلف من سنة إلى أخرى.. فلو أعطي للعلم قيمته، وأشعر الطالب بأهمية حيازته، لتغيرت النظرة إلى ما يتلقاه من علوم، و لأبدع ونبغ.. ولا ننسى أنّ هذه المسألة لن يعجز عنها الوالدان المتعلمان.
الثالث/ وسائل الإعلام.. والتي تمثل عامل قوي لا يستهان به.. فمع كثرة قنواته، وتعدد مصادره، صار ينافس البيت والمدرسة في التربية بل في كل شيء..فلم يعد الكتاب له مكان في حياة الطالب، ولم تعد القراءة لها هواية كما كانت بالأمس، ولم يعد القلم الجميل يجد إلى أنامله طريقًا.. فلما اجتمع إلى ذلك كلّه الفراغ القاتل، والنقص في التوجيه، وقلة الرقابة على هذه الوسائل تسربت الجهود، وضاعت الطاقات.. فالتركيز بحدّ ذاته على ما يعرض على هذه الشاشات بغض النظر عن ما تحمله من أخطار جعل ينخر كالسوس في عقول وقلوب الفتيات والفتيان، فأورثهم ذلك خواء في الفكر، وتشتت للذهن، وصعوبة في الاستيعاب، ونقص في الإدراك، فضلًا عن ما تحمله هذه الوسائل من سموم أضعفت لدى الطالب الكثير من القيم والمبادئ التي يتعلمها كل يوم، وهذا التصادم يولد بدوره المزيد من التبلّد.
الرابع/ تبسيط المعلومات وكثرة التسهيلات.. وهذا الجانب تشترك فيه المدرسة مع البيت على حدٍ سواء.. وذلك عند عرض الدروس، أو أثناء طرح الواجبات، أو خلال الامتحانات.. فالمعلومة التي تحتاج إلى استيعاب وتركيز تـُنحى جانبًا، والمسألة الصعبة ليست واردة في الاختبار، بل ربّما حذفت من باب التخفيف والتسهيل، الموضوع الطويل يختصر إلى الربع،.... وهكذا.. والطالب في معظم الأحوال تقشر لها التفاحة وتعصر دون أدنى جهد مبذول من قبلها.. المهم أنّها تنجح وتجتاز.. وهذا ما أضعف قدرات الكثيرات.. فمن المعلوم أنّ الصعوبة في معظم الأحيان تساعد على تثبيت المعلومة وترسيخها في الذهن.. وهذا شيء مجرب ومعلوم.. فما أتى بسهولة ذهب بسهولة.. والمعلومة السهلة الميسرة سرعان ما تتلاشى وتذهب أدراج الرياح لأنّ العقل لم يحتويها الاحتواء المطلوب.
لذلك أؤكد وبقوة على ضرورة المسارعة في وضع الحلول الممكنة لعلاج هذه المشكلة.. ورأب هذا الصدع الذي بدأ يظهر واضحًا جليًا في السنوات الأخيرة.. فالطالب الذي نبنيه يوما بعد يوم فكريا وعقليًا وعلميًا نجد أنّ جهودنا معه تنهار على ورقة الاختبار.. حينما تضرب المعلمة أخماس في أسداس بل ربّما سكبت العبرات وهي تجني ثمرة جهدها علقمًا وصبرًا.. فأين أثر العلم؟!!!
لم بعد يهمنا ما يحصله الطالب من درجات بقدر ما يهمنا مايصل إليه من وعي وما تبلغه من نضج.
نريده فتى قادر على التعبير، يعي ما ينطق، ويتدبر ما يسمع، اكسبه العلم وقار حامله، وأخلاق ناقله.
نريده فتى مؤهل لحمل المسئولية التي ستلقى على عاتقه في الغد.. نريد أن نسلمه الأمانة وكلنا أمل أن نرى فيه امتداد لما قدمناه من عطاء وما بذلناه من جهد.. وسنسعد أكثر وأكثر عندما نراه ينافسنا ويتفوق علينا لأنّنا بذلك سنحظى بأعظم شهادة شكر قُدمت لنا.