السياسة الجنائية تعتبر الجريمة من الظواهر الاجتماعية التي ظهرت ولازمت المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور ، ويعتبر قتل قابيل لأخيه هابيل تجسيدا لهذه الحقيقة، والجريمة تعد تعبيرا عن عدم
تعتبر الجريمة من الظواهر الاجتماعية التي ظهرت ولازمت المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور ، ويعتبر قتل قابيل لأخيه هابيل تجسيدا لهذه الحقيقة، والجريمة تعد تعبيرا عن عدم الخضوع لمعايير الضبط الاجتماعي، وقد حاول المسؤولون عن أمن المجتمع البحث عن سبل مكافحة الجريمة،فاتجهوا نحو اعتماد أسلوب الردع كإستراتيجية تشريعية، طالها التطور فيما بعد تحت تأثير الأفكار الجديدة للمدارس الفلسفية التي اهتمت بالظاهرة الإجرامية.
فالتطور الذي عرفته الإنسانية عبر مراحل زمنية مختلفة أفرز أنماطا جديدة فيما يخص التعامل مع الظاهرة الإجرامية ورصد مجموعة من الوسائل والأساليب للتصدي لها، وهكذا فقد أدى ميلاد المدارس الفقهية وخاصة المدرسة الوضعية الإيطالية وحركة الدفاع الاجتماعي إلى إبراز مفاهيم جديدة لكل من: "الجريمة" و"المجرم" و"الجزاء الجنائي" وبذلك فقد ساهمت هاته المدارس في إعادة صياغة الفكر الجنائي الحديث، حيث اعتبرت الجريمة نتيجة مباشرة للاختلال في بنيات المجتمع قبل أن تعتبر اعتداء على المعايير القانونية، واعتبر المجرم مذنبا وضحية في نفس الوقت، فهو مذنب لاعتدائه على معايير الضبط الاجتماعي، وضحية الظروف التي أحاطت به عند ارتكاب الجريمة، ونتيجة لكل ذلك اعتبر الجزاء الجنائي وسيلة للدفاع عن أمن المجتمع واستقراره وأداة لإصلاح الجناة وإعادة إدماجهم
إن التطور الذي عرفه الفكر الجنائي أدى إلى الاقتناع بأن الدولة وحدها بالرغم مما تتوفر عليه من أجهزة وتنظيمات، لن تستطيع القضاء على الجريمة، وأن مكافحة الجريمة شأن مجتمعي ينبغي أن تتضافر فيه جهود جميع فعاليات المجتمع من الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني..
والدولة في سعيها لمحاربة الظاهرة الإجرامية تعتمد مجموعة من الوسائل والآليات عبر سياسية جنائية تختلف باختلاف الظروف العامة المحيطة بكل مجتمع.
وسنتناول من خلال هذا العرض موضوع: "السياسة الجنائية" الذي لن يكون بالأمر الهين نظرا لكون مفهوم السياسة الجنائية من المفاهيم القانونية الجديدة التي نتجت عن تطور الفكر الجنائي الحديث، واعتبارا لكون السياسة الجنائي تهتم بمجالات متعددة مثل علم العقوبات وبدائل العقوبات والأحكام القضائية، والعدالة التصالحية، ومعاملة المجرمين كما تهتم بكيفية منع الجريمة وبالطرق التي ينبغي اعتمادها بفرض حماية المجني عليهم وتوفير المعلومات لهم بمناسبة الدعوة الجنائية.
وسنحاول من خلاله أن نلامس بعض الجوانب المرتبطة بالموضوع لأن الإحاطة بكل الجوانب تحتاج إلى دراسة وافية ومستفيضة تتوفر فيها كل مقامات البحث العلمي.
وقد ارتأينا أن نقسم الموضوع إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة تناولنا في الأول مفهوم السياسة الجنائية من خلال الوقوف عند تعريفها وتمييزها عن المفاهيم الأخرى المشابهة، وخصصنا المبحث الثاني للحديث عن مرتكزات السياسة الجنائية من خلال ثلاثة عناصر تحدثنا في الأول عن خصائص السياسة الجنائية، وفي الثاني عن مجالات السياسة الجنائية بينما تطرقنا في الثالث إلى أهداف السياسة الجنائية، أما المبحث الثالث فتناولنا فيه السياسة الجنائية من النشأة والتطور إلى الواقع والأزمة من خلال ثلاث عناصر.
وقد جاء تصميم الموضوع على الشكل التالي: المقدمة
I - مفهوم السياسة الجنائية
1. تعريف السياسة الجنائية
2. تمييز مفهوم السياسة الجنائية عن المفاهيم الأخرى المشابهة لها
II – مرتكزات السياسة الجنائية
1. خصائص السياسة الجنائية
2. مجالات السياسة الجنائية
3. أهداف السياسة الجنائية
III – السياسة الجنائية من النشأة والتطور إلى الواقع والأزمة
1. نشأة وتطور السياسة الجنائية
2. واقع السياسة الجنائية
3. أزمة السياسة الجنائية الخاتمة I - مفهوم السياسة الجنائية
تعتبر السياسة الجنائية من المفاهيم القانونية الجديدة التي نتجت عن تطور الفكر الجنائي الحديث، وهو مفهوم يلتبس ببعض المفاهيم الأخرى المشابهة، لذلك سيكون من المفيد الوقوف عند تعريفها (أولا) ثم تمييزها عن بعض المفاهيم المشابهة لها (ثانيا).
1. تعريف السياسة الجنائية
إن وضع تعريف للسياسة الجنائية ليس أمرا سهلا، ولذلك فقد اختلفت وتعددت التعاريف بشأنها من خلال الاجتهادات المبذولة من طرف فقهاء القانون، مما أدى إلى عدم الاتفاق فيما بينهم على تعريف موحد وشامل، ويرجع ذلك إلى تعدد المرجعيات الفكرية والفلسفية والعلمية، وكذا إلى اختلاف البيئات وإلى التطور الذي يحكم كل مجتمع. وقبل أن نستعرض جملة من هاته التعاريف سوف نحاول في البداية الوقوف عند تعريف مصطلح "السياسة".
جاء في لسان العرب لابن منظور بأن السياسة هي القيام على شيء بما يصلحه وتقابلها بالفرنسية كلمة (POLITIQUE) وبالانجليزية (politico) وكلها مصطلحات مشتقة من الكلمة اليونانية (polis) التي تعني "المدينة" أي مكان اجتماع المواطنين. أما في اللغة العربية فهي مشتقة من فعل ساس يسوس سياسة، وهي تطلق على مجموعة من المعاني مثل: "الترويض" و "التدليل"... وعموما فمصطلح السياسة يعني: "علم حكم الدول أو المبادئ التي تقوم عليها الحكومات والتي تحدد علاقتها بالمواطنين وبالدول الأخرى".
أما السياسة كمفهوم إجرائي فيراد بها تلك الأفكار والمبادئ التي تحددها الدولة بهدف توجيه القانون سواء في مرحلة إنشائه أو في مرحلة تطبيقه في إطار التوجه السياسي العام للدولة، لذلك فإن السياسة توجه المشرع كما توجه المؤسسة القضائية بهدف تنظيم العلاقات داخل المجتمع بشكل يضمن التعايش والانسجام بين أفراده.
وبخصوص اصطلاح "السياسة الجنائية" فيعتبر الألماني (فيورباخ) أول من استعمله في بداية القرن 19 وكان يقصد به تلك "الوسائل التي يمكن اتخاذها في وقت معين وفي بلد محدد من أجل مكافحة الجريمة"
وعرفها الفقيه "فليبو كراماتيكا" قيدوم مدرسة الدفاع الاجتماعي بأنها: "دراسة أفضل الوسائل العلمية للوقاية من الانحراف الاجتماعي وقمعه... باعتبار أن غاية الدفاع الاجتماعي إصلاح الأفراد وتأهيلهم اجتماعيا" فهذا التعريف يركز على جانب الوقاية وجانب تأهيل المنحرف وإدماجه في المجتمع. وهو مستمد من غاية مدرسة الدفاع الاجتماعي التي تعتبر التأهيل حقا لكل شخص والتزاما مفروضا على عاتق المجتمع الذي يتحمل قسطا من المسؤولية في الانحراف الذي يسلكه الأفراد.
ويمكن اعتبار التعريف الذي جاء به الفقيه الفرنسي "مارك أنسل" أهم تعريف للسياسة الجنائية حيث ذهب إلى أنها تلك السياسة التي تهدف إلى تطوير القانون الجنائي الوضعي وتوجيه كل من المشرع الذي يسن القانون والقضاء الذي يقوم بتطبيقه والمؤسسات العقابية وهذا التعريف يعطي نطاقا واسعا للسياسة الجنائية فلا يحصر دورها في الوقاية من الجريمة أو إيجاد علاج لها، كما ذهب إلى ذلك فقهاء مدرسة الدفاع الاجتماعي، بل يجعلها تمتد للتحكم في صياغة قواعد التجريم والعقاب، وفي الممارسة القضائية وأيضا في تنفيذ الأحكام التي تصدر عن القضاء. فالسياسة الجنائية وفق هذا التصور تعنى بالمرحلة التي تسبق ارتكاب الجريمة باعتماد سياسة وقائية وشاملة للحيلولة دون وقوع الجريمة، كما تعنى بالمرحلة اللاحقة على ارتكاب الجريمة بالدعوة إلى تأهيل الجناة والعمل على إدماجهم من جديد في المجتمع.
وإذا كان الاتجاه الليبرالي -كما رأينا- يتوزع في تحديده لمفهوم السياسة الجنائية بين من يقصرها في تحديد الجزاء الجنائي المترتب عن الجريمة، ومن يتعدى ذلك إلى توسيع نطاقها بجعلها تهدف إلى المنع إضافة إلى التجريم، وبين من يركز على حق الفرد المنحرف في التأهيل والتزام الدولة بهذا الواجب فإن فقهاء الفكر الاشتراكي يربطون السياسة الجنائية بالسياسة الاجتماعية وتطوراتها المختلفة ويركزون في تحديد مفهومها على كفاية الاتجاه العام للدولة في مكافحة الإجرام من خلال الشق العقابي الذي يتبلور في القانون الجنائي والشق الاجتماعي المتمثل في السياسة الاجتماعية واللذين يشكلان معا أسلوبا لرد الفعل الاجتماعي ضد الأفعال الإجرامية لحماية مصالح الطبقة الاجتماعية المسيطرة.
أما السياسة في الشريعة الإسلامية فهي جزء من السياسة الشرعية، وقد وقع اختلاف في تحديد المقصود بالسياسة الشرعية، فذهب الفقهاء إلى أن المراد بها التوسعة على ولاة الأمر لإعمال ما تقضي به المصلحة مما يخالف أصول الدين وإن لم يقع عليه دليل خاص.وذهب غيرهم إلى أن المراد بها تدبير مصالح العباد وفق الشرع. والفقهاء بدورهم انقسموا إلى فريقين:
فريق يرى بأنه لا وجود لسياسة إلا فيما يتفق مع النصوص الشرعية.
وفريق ثاني يرى بأن السياسة ما كان معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم ينزل به وحي أو يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتزعم هذا الاتجاه أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي
أما عن السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية فقد عرفت بأنها العمل على درء المفاسد الواقعة أو المتوقعة من الفرد والمجتمع وإقامة الحدود والقصاص وغيرها لتحقيق الأمن بكافة الوسائل والطرق الممكنة فكرية كانت أم مادية في ضوء المبادئ العامة للشريعة الإسلامية.
وانطلاقا من هذا التعريف يتضح أن السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية والسياسة الجنائية في القوانين الوضعية يلتقيان في الهدف بينما يختلفان في الثوابت والمنطلقات فكلاهما يهدف من وراء السياسة الجنائية تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي عن طريق معاقبة الجاني بالاعتماد على سند قانوني وشرعي. غير أن السياسة الجنائية الوضعية متغيرة تبعا لتغير القيم وحسب ظروف الزمان والمكان في حين أن السياسة الجنائية الإسلامية تنطلق من ثوابت لا تتغير بتغير الزمان والمكان ومن ثوابت أخرى مرنة تتغير بتغير المصالح.
وخلاصة القول أن الاتفاق على مفهوم موحد للسياسة الجنائية لن يكون متيسرا في ظل اختلاف البيئات والمجتمعات وأيضا بالنظر إلى تنوع الإيديولوجيات التي تحكم الدول في معالجتها للظاهرة الإجرامية كما أن التطور الذي يعرفه المجتمع يشكل عاملا آخر يساهم في عدم الاتفاق على مفهوم موحد للسياسة الجنائية. وحتى نقترب أكثر من مفهوم السياسة الجنائية سيكون من الأفيد تمييز مفهومها عن المفاهيم الأخرى المشابهة.
2. تمييز مفهوم السياسة الجنائية عن المفاهيم الأخرى المشابهة
قد يختلط مفهوم السياسة الجنائية ببعض المفاهيم المشابهة له كمفهوم علم الإجرام والقانون الجنائي، والسياسة العامة للدفاع الاجتماعي مما يحدث التباسا في تحديد المفاهيم المرتبطة بها، لذلك سنحاول أن نوضح أوجه الاختلاف ونقط الالتقاء وأيضا العلاقة التي تربط بين هذه المفاهيم.
فبالنسبة للعلاقة بين السياسة الجنائية وعلم الإجرام فقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجود استقلال بين العلمين، فإذا كان الأول يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه التجريم والعقاب والمنع فإن علم الإجرام يبحث في أسباب الظاهرة الإجرامية وبحكم العلاقة التي تجمع على الإجرام بالسياسة الجنائية فقد اعتبرها البعض جزءا من علم الإجرام أو هي الشق الأخير منه الذي يبحث في وسائل الوقاية من الجريمة بالاستناد إلى الأبحاث التي ينجزها علماء الإجرام. والواقع أن هناك فارقا في الموضوع بين العلمين إذ أن علم الإجرام يهتم بتفسير الظاهرة الإجرامية والكشف عن الأسباب التي تقف وراءها سواء تعلقت بالفرد أو المجتمع، أما علم السياسة الجنائية فإنه يهتم بفن التشريع وبالإجراءات والتدابير التي يستخدمها المجتمع لمواجهة ظاهرة الإجرام بهدف الوقاية منها قبل وقوعها، وكذا معاقبة المجرمين، وتأهيلهم بعد ارتكاب الأفعال الإجرامية.
أما فيما يخص السياسة الجنائية والقانون الجنائي فيمكن القول أن هناك علاقة متلازمة بين العلمين، فالسياسة الجنائية تعتبر المرجعية التي تؤطر تطوير القانون الجنائي وتوجيهه في مرحلتي الإنشاء والتطبيق وأما القانون الجنائي فهو أداء لتطبيق السياسة الجنائية وبذلك فهما يختلفان من عدة نواحي منها أن القانون الجنائي يعالج موضوعات محددة بدقة، بخلاف السياسة الجنائية التي تعالج أوضاعا عامة تفتقر إلى الضبط والتحديد، كما أن القانون الجنائي ينص على حكم معين للموضوع الذي يتناوله بخلاف السياسة الجنائية فإنها تقتصر على بيان توجه عام يعالج هذا الموضوع، إضافة إلى أن القانون الجنائي يتميز بعنصر الإلزام خلافا للسياسة الجنائية وغيرها من العلوم الجنائية .
وبالنسبة للعلاقة بين السياسة الجنائية والسياسة العامة للدفاع الاجتماعيفرغم أن هدفهما واحد وهو مكافحة الجريمة، فهما يختلفان من حيث نطاق كل منهما، إذ أن السياسة الجنائية تهتم بمجال التجريم والعقاب والمنع فهي تعمل على تطوير القانون الجنائي، أما سياسة الدفاع الاجتماعي فإنها تبحث في كافة التدابير التي من شأنها منع الجريمة أو معالجتها سواء كان ذلك مما يرتبط بالمشكلات الاجتماعية أو كان ذلك على مستوى الفرد أو الجماع.
II– مرتكزات السياسة الجنائية
1. خصائص السياسة الجنائية
تتميز السياسة الجنائية بمجموعة من الخصائص، تنطلق من رسم غايات وأهداف يراد تحقيقها في مجال مكافحة الجريمة، وسنعرض لبعض هذه خصائص كما أوردها الدكتور فتحي سرور في كتابه "أصول السياسة الجنائية"كما يلي:
خاصية العلمية:
تتوخى السياسة الجنائية تطوير القانون الجنائي الوضعي في مجالات التجريم والعقاب والمنع وذلك بتوجيهه في مرحلة إنشائه وتطبيقه، فخلال مرحلة سن القواعد الجنائية ينبغي للمشرع الاهتداء بمبادئ السياسة الجنائية ، أما خلال مرحلة التطبيق فينصرف التوجيه إلى القاضي الذي يتعين عليه الإلمام بآخر المستجدات والتطورات التي تعرفها السياسة الجنائية ليستعين بذلك في تطبيق النصوص وجعلها تلائم أهداف المشرع وغاياته. فالسياسة الجنائية لا تطور النصوص التشريعية فقط وإنما تعمل أيضا على تطوير تفسير هاته النصوص بواسطة كل من الفقه والقضاء.
خاصية النسبية:
تتميز السياسة الجنائية بخاصية النسبية لكونها ترتبط بظاهرة الإجرام التي تختلف أسبابها باختلاف البيئة والظروف الاجتماعية، لذلك فإن تحديد السياسة التي تبين الجريمة وتجد الوسائل الكفيلة بإيجاد أسلوب العقاب عليها أو الوقاية منها تتأثر تبعا لطبيعة هذه البيئة، وبناء عليه فإن الوسائل التي قد تصلح لمكافحة الجريمة في دولة معينة قد تكون عديمة الجدوى في دولة أخرى نظرا لاختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولتين.
الخاصية السياسية:
ترتبط السياسة الجنائية بالوضع السياسي القائم في الدولة والذي يوجهها ويحدد إطارها، فالدول التي تسيطر عليها الأنظمة الديكتاتورية تختلف عن غيرها من الدول ذات النظم الديمقراطية في تحديد السياسة الجنائية، فهناك إذن علاقة أساسية بين المسائل الهامة للسياسة الوطنية والسياسة الجنائية.
خاصية التطور
إذا كانت ظاهرة الإجرام ظاهرة اجتماعية، فهي بذلك متغيرة ومتطورة، فأهم ما يميز السياسة الجنائية هو حركتها، فهي سياسة متطورة بحكم اعتمادها على نتائج علم الاجتماع القانوني وما اهتدى إليه علم الإجرام والعقاب، كما تتأثر أيضا كما رأينا بالنظام السياسي السائد، ولدلك وجب أن تراجع السياسة الجنائية باستمرار حتى تكون فاعلة.
2. مجالات السياسة الجنائية
يتضمن هذا العنصر دراسة مجالات السياسة الجنائية، التي تتحقق من خلال تضافرها الأهداف التي تسعى هذه السياسة إلى تحقيقها ويتعلق الأمر بسياسة التجريم والمنع والوقاية.
سياسة التجريم
تتضمن هذه السياسة بيان المصالح الجديرةبالحماية العقابية والتي تتضمن المصالح الاجتماعية التي تهم حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليها، فالسياسة الجنائية تهدف إلى إنشاء الجرائم التي تمس المصلحة الاجتماعية وتضع الإطار القانوني للمصالح المحمية بالتجريم من خلال نصوص القانون الجنائي الذي يحدد النتائج الضارة لكل فعل، والتي تستوجب التجريم، ومقابلتها بالجزاء الملائم طبقا لمبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص" فلسياسة الجنائية تفرض على المشرع الجنائي أن يوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة بهدف تحقيق الاستقرار للقانون الجنائي الذي ينبغي أن يدخل في إطار التخطيط العام الذي تقوم به الدولة لتجنب آفات البطالة والتقهقر والانحطاط الأخلاقي. وقد أدى هذا التصور في مجال التجريم بالمفكرين وعلماء الإجرام إلى المناداة بوجوب جنوح هذه السياسة نحو توجيه المشرع إلى نهج سياسة التجريم الوقائي التي تقتضي تحديد التدابير الواجب إتباعها لمواجهة الخطورة الاجتماعية للفرد من أجل منعه من ارتكاب الجريمة.
وتجدر الإشارة إلى أن سياسة التجريم لها دور تربوي واجتماعي إضافة إلى دورها الحمائي، ويتجلى ذلك من خلال القواعد المرتبطة بالأخلاق والتقاليد الاجتماعية والتي تسعى إلى المحافظة على القيم الدينية وترسيخها في الضمير الجمعوي، وتكمن أهمية هذا الدور التربوي على الخصوص بالنسبة للقيم الاجتماعية الجديدة التي تظهر في المجتمع نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي يتصدى المشرع لجوانبها السلبية التي يمكن أن تؤثر على مستوى العلاقات بين الأفراد
سياسة العقاب
تعتبر السياسة العقابية وسيلة لتنفيذ جزء محدد من السياسة الجنائية والذي يرتبط أساسا بالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية باعتبارهما آليتين محوريتين في تحديد ردود الأفعال تجاه الجريمة، أما الجزء الآخر الذي يشمله علم الإجرام فإنه يظل مجالا خصبا يتناوله الباحثون بالدراسة والتحليل في أسباب وطبيعة السلوك الإجرامي.
وبالرجوع إلى المشرع الجنائي نجد أنه يربط دائما العقوبة بالجريمة بمقتضى علاقة سببية يفرضها العدل ويلتزم القانون باحترامها ومراعاتها، إذ أنه لا عقوبة بدون جريمة سابقة منصوص عليها وعلى عقوبتها في القانون الجنائي كما أنه لا جريمة بدون عقوبة، فالعلاقة هي من إنتاج المشرع الجنائي الذي يمنح للدولة حق الردع الخاص وذلك طبقا لمبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"
ويعتبر الردع العام من أهم أهداف السياسة الجنائية في مجال العقاب، غير أن أثره يختلف باختلاف الجرائم التقليدية أو الاجتماعية والجرائم القانونية أو الاصطناعية، وهكذا فإنه بخصوص النوع الأول فإن أثر الردع على أفراد المجتمع لا ينبع من النصوص الجنائية بقدر ما ينبع من احترامهم لأهم المبادئ التي يؤمن بها هؤلاء الأفراد وهو ما يفسر بأن حركة الإجرام تزداد رغم تشديد العقوبات كما تشير إلى ذلك الإحصائيات التي قام بها علماء الإجرام في مختلف البلدان.
أما النوع الثاني من الجرائم فإن الأفراد يحترمون فيه نصوص القانون أكثر من احترامهم لمبادئ المجتمع، ولهذه العلة فإن الردع العام يكون في هذه الحالة أكثر تأثيرا على هؤلاء الأفراد سواء من الناحية الاجتماعية أو النفسية.
فالعقوبة في حد ذاتها لا تؤثر على الإنسان وسلوكه مهما كانت طبيعته، وذلك راجع لكون الجرائم التي يرتكبها غالبا ما ترتبط بغرائزه التي لا يمكن أن يقاومها باعتبار أنها تدخل في نطاق موته المستمر. ولذلك فقد تطورت السياسة العقابية إلى درجة تحول معها مفهوم العقاب من مجرد جزاء جنائي ضد الجاني إلى فعل اجتماعي غايته الإصلاح والتأهيل بدل الانتقام أو القسوة التي كانت سائدة في ظل السياسة العقابية القديمة.
فالسياسة الجنائية المعاصرة أخذت بضرورة فحص شخصية المجرم وقياس التدبير الملائم له وفقا لدرجة خطورته، وهكذا فقد أقرت سياسة الدفاع الاجتماعي عند "كراماتيكا" و" مارك انسل" بحماية الجاني من خلال إصلاحه وذلك باحترام حقوق الإنسان وتوفير الضمانات الإجرائية خلال جميع مراحل الدعوة الجنائية.
سياسة الوقاية والمنع
تهتم هذه السياسة بالمرحلة التي تسبق وقوع الجريمة وتتمظهر من خلال التدابير والإجراءات التي يتم اتخاذها من طرف المشرفين على السياسة الجنائية للحيلولة دون وقوع الجريمة. وتهدف سياسة المنع في كل الدول إلى اجتثاث العادات الانحرافة والقضاء على العوامل التي تهيئ الفرص لارتكاب الجريمة، وذلك إعمالا لمبدإ: " الوقاية خير من العلاج" فالبحث عن الأسباب والعوامل، وتشخيص الوضعيات الاجتماعية، والتصدي للظواهر التي تؤدي للانحراف تعد من بين التدابير الوقائية التي ينبغي للدولة أن تعتمدها وأن تنهج بالموازاة مع ذلك سياسة اجتماعية لتحسين ظروف عيش المواطنين ورفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي، ومكافحة البطالة وتشجيع التضامن والتزامها بمجانية التعليم والتغطية الصحية والسكن اللائق وتوفير فرص الشغل وتحسيس الأفراد بخطورة الجريمة والانحراف، وكذا تشديد الرقابة على الأماكن العمومية وتوفير الأمن الاجتماعي.
وقد شكل المؤتمر السادس للأمم المتحدة المنعقد بكاركاس سنة 1980 أول مؤتمر دولي يعترف بأن برامج منع الجريمة ينبغي أن تستند إلى الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية للبلدان وتشكل جزءا من عملية التخطيط الإنمائي، وبناءا عليه فقد اهتمت العديد من البلدان في إستراتيجيتها الجنائية بمنع الجريمة قبل تدخل نظام العدالة الجنائية.
3. أهداف السياسة الجنائية
يمكن القول بأن أي سياسة جنائية لابد لها من وضع إستراتيجية للوصول إلى هدف أو أهداف معينة، وتحدد هذه الإستراتيجية في اعتماد مجموعة من الوسائل والأساليب لبلوغ تلك الأهداف التي سطرتها، وتمتاز السياسة الجنائية عموما بتحقيق هدفين أساسيين هما: تحقيق الحماية الاجتماعية، والاتجاه نحو إصلاح وتأهيل المجرم.
الحماية الاجتماعية الإنسانية:
إن الدولة في إطار سياستها الجنائية تحاول دائما تحقيق التوازن بين حقها في العقاب ومنع الجرائم والوقاية من خطرها، وبين حماية حقوق الإنسان والدفع بالفرد للالتزام أثناء نشاطه بالقيم والقوانين السائدة في المجتمع بقصد التكيف مع المعايير الاجتماعية والقانونية لضمان استفادته من حقوقه الكاملة وقيامه بواجباته وتحمله لمسؤولياته.
من هذا المنطلق فالسياسة الجنائية تهدف إلى القضاء على مسببات الجريمة والتي تتمثل لدى كل الشعوب في وجود خلل في البنيات الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية أو في العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية التي تسود بين الأفراد، فهي تسعى إلى القضاء على الخطورة الإجرامية وعلى هذا الأساس يمكن للدولة أن تواجه هذه الخطورة باتخاذ تدابير وقائية وأخرى منعية تنفيذا لسياسة الدفاع الاجتماعي وذلك بالحد من العادات الانحرافية، والعمل على تطوير نظم المجتمع، وحماية حقوق الإنسان التي تعتبر ركيزة أساسية لتحقيق السلم الاجتماعي وحماية المجتمع من مظاهر الانحراف والتوجه نحو الإجرام.
الإصلاح والتأهيل:
تهدف العديد من المذاهب والاتجاهات الفلسفية إلى التركيز في سياستها الجنائية على مبدإ إصلاح المجرم من خلال توجيه العقوبة نحو الإصلاح والتأهيل بدل القسوة والانتقام، وتعتبر نظرية "كراماتيكا" من أبرز النظريات التي ركزت على مبدإ الإصلاح يقول في هذا الصدد: (( إن سلطة الدولة في الدفاع الاجتماعي تنبع من واجبها في إصلاح أعضاء المجتمع والارتقاء بهم))
وعلى هذا الأساس فإن التأهيل والإصلاح يكون بديلا للعقاب. كما ذهب "مارك أنسل" في نفس الاتجاه بتركيزه على مبدإ التأهيل الذي يحقق الحماية المرجوة للمجتمع، فإصلاح الجاني وتقويمه وتأهيله للاندماج في المجتمع يقع على عاتق الدولة والمجتمع ككل.
ويتحقق هذا التأهيل عن طريق تعليم الجاني إحدى المهن التي تناسب ميوله وتثقيفه وتعليمه وإعادة تربيته أو علاجه نفسيا، وهذا التأهيل هو الذي يقي المجتمع من إجرامه في المستقبل.
ولهذا فالسياسة الجنائية تعمل على مواجهة المجرم بتدابير اجتماعية تراعي الأسباب والعوامل العضوية والنفسية والاجتماعية التي دفعته للّإجرام، والتي ينبغي إخضاعها لمبدأ الشرعية من أجل حماية الحقوق والحريات الفردية.
III- السياسة الجنائية من النشأة والتطور إلى الواقع والأزمة
1. نشأة وتطور السياسة الجنائية
مرت السياسة الجنائية بمجموعة من المراحل، عرفت خلالها تطورا ملحوظا، وبالرغم من أن هذه السياسة لم تكن في البداية ترتكز على فكر علمي محض بل ارتكزت على أساس فلسفي فإنها أغنت الفكر الجنائي في مختلف نواحيه إلا أن الملاحظ خلال المراحل الأولى هو اهتمام المشرع الجنائي بجانب العقوبة وإغفال جانب المجرم أو الجاني.
وهكذا فقد ظل الفكر السياسي ينظر إلى السياسة الجنائية بالاستناد إلى العقوبة التي اختلف تبريرها من فيلسوف لآخر، حيث اعتمد فيكاريا في ذلك على نظرية العقد الاجتماعي وسايره في هذا التوجه كل من الفيلسوف فيروباخفي ألمانيا وبنتام في انجلترا، هذا الأخير الذي يعد أحد أقطاب نظرية النفعية الاجتماعية والتي مفادها أن الإنسان يتمتع بخاصية الحساسية ومن ثم فهو يميل إلى اللذة ويهرب من الألم ودور المشرع هو الملائمة بين لذات الأفراد داخل المجتمع لتفادي الاصطدام والصراع وتحقيق المنفعة العامة. وقد أثرت هذه النظرية في السياسة الجنائية معتبرة بأن سيطرة الدولة على العقاب جاء نتيجة تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم،مقابل حماية الدولة لباقي الحقوق الغير المتنازل عنها، وبناء عليه تأسس حق الدولة في العقاب بغض النظر عن طبيعة العقوبة التي اتسمت في غالبها بالقسوة. وقد أدت هذه الأفكار الفلسفية إلى بروز أهم المبادئ التي لا زالت تقوم عليها السياسة الجنائية وإلى حد الآن هي مبدأ الشرعية ومبدأ المسؤولية الشخصية ومبدأ الحرية، ومبدأ المنفعة.
وهكذا فبالنسبة لمبدأ الشرعية الذي يعني أنه لا عقاب بدون نص تشريعي فإن الهدف منه تجلى في الحيلولة دون تعسف القضاة في تجريم أفعال لا يعاقب عليها القانون وذلك بغية تحقيق المساواة بين المجرمين وتبرير حكم الدولة في العقاب.
أما مبدأ المسؤولية الشخصية فقد كان الغرض منه تسلط الدولة على الحد من حرية الأفراد وذلك للحيلولة دون عقاب الجاني إلا إذا توفرت لديه الإرادة الحرة الكاملة.
وبالنسبة لمبدأ المنفعة فكان يقضي بوجوب تناسب العقوبة مع مقدار الضرر الذي تحدثه، وأن تؤدي العقوبة دورها في تحقيق المنفعة الاجتماعية، وقد كان الفكر الفلسفي خلال هذه المرحلة يتوخى منها تحقيق غايات تربوية أكثر منها تسلطية.
وقد انتقد مفكروا الفلسفة الكلاسيكية الجديدة الأفكار التي تبنتها المدرسة التقليدية في السياسة الجنائية التي كانت تنظر إلى العقوبة استنادا إلى خطورة الجريمة أو المجرم، وتوصلوا إلى نظرية العدالة التي تعني أن معيار التجريم والعقاب لا ينبغي أن يقتصر على تحقيق المصلحة الاجتماعية بل يجب أن يمتد هذا الدور إلى تحقيق العدالة، فالدولة عند وضعها لقانون التجريم والعقاب ينبغي عليها أن تراعي تحقق الخطأ الجنائي فيمن يرتكب الجريمة قبل أن تسائله جنائيا. فالمسؤولية الجنائية ينبغي أن ترتبط بالإدراك التام، وعند وجود نقص في الإدراك أو الحرية أو نظرا للحالة الصحية أو العقلية فإن المسؤولية حينئذ تخفف عن الجاني وهو ما يؤدي إلى تقرير مبدأ تفاوت المسؤوليات.
وتتحقق العدالة عندما يراعي المشرع والقاضي التوازن في العقوبات من حيث القوة والضعف واعتماد الحد الأدنى والأقصى سواء في مرحلة التشريع أو في مرحلة التقاضي وإعطاء القاضي سلطة تقرير العقاب وحرية التقدير وعند التنفيذ تراعى ملاءمة العقوبة شخص المحكوم عليه.
بعد هذه المرحلة اعتمدت السياسة الجنائية على المنهج العلمي الذي واكب ظهور المدرسة الوضعية التي برزت على إثر الانتقادات التي وجهتها لأنصار الفكر الميتافيزيقي لهذه السياسة.
وهكذا نادى أنصار هذا التوجه على وجوب تخلي الدولة على الجانب التسلطي في العقاب، وضرورة قيامها بمراقبة مؤسساتها الاجتماعية والسياسية قبل لجوئها إلى القانون الجنائي كأداة لقمع الأفراد في حالة فشلها في هذه المراقبة. وقد كان ظهور هذا الفكر الفلسفي العلمي على يد ثلاثة من الإيطاليين: الطبيب والعالم لومبروزو والعالم جارونالو والعالم أنريكو فيري والذي أسس كل واحد منهم نظرية خاصة به.
وقد صاغ لومبروزو نظريته التي أسسها على تقسيم المجرمين إلى خمس فئات: - المجرم الفطرة و الميلاد – المجرم المجنون – المجرم بالصدفة – المجرم بالعاطفة – والمجرم بالعادة.
أما فيري فإن أهم ما يميز نظريته هو اهتمامها بتأثير العوامل الاجتماعية والتأكيد على تفاعل العوامل الداخلية والخارجية لوقوع الجريمة، كما يرى بأن إصلاح المجرم ليس كافيا بل ينبغي بذل المجهود لإصلاح وسطه الاجتماعي.
في حين يعتبر كاروفالو أن المجرم الحقيقي هو ذلك الشخص الذي يرتكب الجريمة التي يستنكرها كل أفراد المجتمع المنافية لقيم العدل والخير، ونادى وفقا لذلك بضرورة التمييز في العقاب بين من يرتكب مثل هذه الجرائم الطبيعية وبين مرتكب الجرائم المصطنعة ولم ينس دو ر العوامل الاجتماعية وتأثيرها على وقوع الجريمة وإن قلل من أهمية تأثيرها.
وقد ركزت أفكار هذا الاتجاه في تفسير السلوك الإجرامي بالاعتماد على أسباب تتصل بشخصية المجرم بما تتضمنه من خصائص عضوية ونفسية، وحماية المجتمع من الظاهرة الإجرامية بالقضاء على خطر الإجرام وإزالة أسبابه.
بعد هذه المدرسة نشأت حركة الدفاع الاجتماعي على يد الأستاذ "جراماتيكا"وتهدف هذه المدرسة أساسا إلى حماية المجتمع والمجرم جميعا من الظاهرة الإجرامية، ويقوم الفكر الفلسفي لهذه المدرسة على عنصرين هما: إنكار حق الدولة في العقاب لكون العقاب لا يتفق مع الطبيعة الحرة للإنسان، ويبقى عاجزا عن إصلاح المجتمع ولذلك فإن الدولة ملزمة – كعنصر ثان- بأن تقوم بواجبها في التأهيل الاجتماعي. من خلال ما سبق خلص كراماتيكا إلى أن الدولة من واجبها إعادة تأهيل الفرد الاجتماعي دون اللجوء إلى معاقبته باعتبارها مسؤولة عن سلوكه المنحرف وبذلك يتعين عليها تطبيق التدابير الاجتماعية للحفاظ على كرامة الأفراد المنحرفين اجتماعيا وقد تعرضت نظرية كراماتيكا للعديد من الانتقادات خصوصا فيما يتعلق بتصوراته حول إلغاء العقوبة لما في ذلك من مس بمبدإ الشرعية وبوظيفة الردع العام والخاص وتحقيق العدالة، وقد استفاد المستشار "مارك أنسل" من هذه الانتقادات ليعمل على صياغة نظرية جديدة ومتميزة حيث أصدر خلال سنة 1954 مؤلفه:الدفاع الاجتماعي الجديد" فهو لم ينادي بإلغاء قانون العقوبات والتجريم والمسؤولية الجنائية كما فعل زميله "كراماتيكا" بل أسس حق العقاب على مبدأ تأهيل المجرم وإدماجه اجتماعيا.
وتتميز نظريته بمعالجتها للسياسة الجنائية بجميع فروعها "المنع والتجريم والعقاب" .
وعموما فقد تميزت حركة الدفاع الاجتماعي الجديد بالاعتراف بالقانون الجنائي والمسؤولية الجنائية القائمة على أساس حرية الاختيار وتمسكت بمدأ الشرعية الجنائية وكذلك بتوحيد السياسة الجنائية لمواجهة الجريمة بالوقاية والمنع والعقاب عن طريق التصدي للجريمة بانتهاج سياسة تأخذ نتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية وتجمع بين القانون الجنائي وعلم الاجتماع وعلم الإجرام، وبدورها لم تنج حركة الدفاع الاجتماعي الجديد من الانتقادات لخلطها بين العقوبة والتدابير الاحترازية واهتمامها بالردع الخاص على حساب الردع العام وتحقيق العدالة.
وعموما فإن المنهج العلمي للسياسة الجنائية بجميع توجهاته لم يكن يعتمد على منهج محدد في تجريم الأفعال أو العقاب عليها بل اكتفى فقط بالنتائج العلمية التي كان ينتهي إليها علم الإجرام.
تختلف المواقف بخصوص الحديث عن وجود سياسة جنائية من عدمها وهو ما جعل هذا الموضوع مثار نقاش وجدل كبيرين كما أثار إشكالا قانونيا عميقا، ومحاولة منا لمقاربة هذا الموضوع سوف نعمل على الوقوف عند نشأة السياسة الجنائية بالمغرب وتطورها أولا وبعد ذلك سنحاول تلمس واقع هذه السياسة في الميدان العملي للوقوف عند حقيقة وجود هذه السياسة لنختم هذا المبحث بالوقوف عند مظاهر الخلل التي عرفتها السياسة الجنائية.
إن الحديث عن السياسة الجنائية في بلد ما وتحديد طبيعتها وبيان أهميتها ونجاعتها في مكافحة الجريمة، لا يمكن أن يتم إلا في ضوء طبيعة التشريع الجنائي وقانون الإجراءات الجنائية وأيضا في ظل طبيعة المؤسسات الجنائية. وانطلاقا من هذه المعادلة فإن حديثنا عن نشأة السياسة الجنائية وتطورها سيتم من خلال هذه المكونات في ارتباطها بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أثرت في كل مرحلة على حدة، دون أن نغفل الحديث عن تطور السياسة الجنائية بالمغرب.
أما في المغرب فقد تبلورت أولى ملامح السياسة الجنائية بالمغرب بصدور قانون المسطرة الجنائية بتاريخ: 10 فبراير 1959 وصدور أول قانون جنائي بتاريخ 26 نونبر 1962 بعد حصول المغرب على استقلاله،فقد نص الأول في ديباجيته على مبدأ أن البراءة هو الأصل وحدد للاعتقال الاحتياطي مددا لا يمكن تجاوزها كما نص على حرمة السكن وأقر ضمانات هامة للمحاكمة العادلة. كما أن القانون الجنائي استفاد من صدور عدة قوانين كقانون الحريات العامة في 15/11/1958 وقانون تأسيس الجمعيات وقانون الصحافة واستفاد أيضا من التطور الذي عرفته النظم الجنائية الحديثة وتأثر بمدرسة الدفاع الاجتماعي حيث حدد للعقوبة حدين أدنى وأقصى، ونص على الأعذار المخفضة وظروف التشديد ووقف تنفيذ العقوبة محاولا من خلال هذه القوانين إرساء عدالة جنائية حديثة.
غير أن هذا التطور سرعان ما سيواجه صعوبات أملتها ظروف سياسية أدت إلى إجراء تعديلات تبنى فيها المشرع مقتضيات تشريعية تميل إلى الصرامة سواء في الإجراءات أو تحديد العقوبات مبتعدا بذلك عن خلق انسجام بين الضرر والعقوبة، والتي حالت في الكثير من الأحيان دون ترشيد الاعتقال والمبالغة في تشديد العقوبة.
بعد هذا الوضع جاء إصلاح 1974 الذي هم هرم التنظيم القضائي واهتم بموضوع تقريب القضاء من المتقاضين فأحدثت بموجبه محاكم الجماعات والمقاطعات غير أنه بقي محدودا في إدخال تعديلات جوهرية على المنظومة القانونية الجنائية، وكان ينبغي الانتظار إلى التسعينات من القرن الماضي حيث سيتم إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ولجنة الإنصاف والمصالحة التي تكونت لإنصاف ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي وإدخال عدة تعديلات على قانون المسطرة الجنائية بناء على توصيات المجلس الاستشاري والتي همت تقليص مدد الاعتقال الاحتياطي والوضع تحت الحراسة.
غير أن أول استعمال لمصطلح "السياسة الجنائية" كان في القانون الجديد للمسطرة الجنائية الجديد الذي جاء ليساير التوجهات الحديثة للسياسة الجنائية حيث تضمن مجموعة من المقتضيات التي توافق ما تبنته معظم التشريعات الحديثة كضمانات المحاكمة العادلة والضمانات اللازمة لممارسة حق الدفاع، إضافة إلى التعديلات التي لحقت القانون الجنائي في مجال حماية الطفل والمرأة والقانون المتعلق بالجرائم المعلوماتية، وقانون محاربة الهجرة غير المشروعة وقوانين السجون، وقانون المنافسة إضافة إلى مشروع القانون المتعلق بمناهضة التعذيب.
2. واقع السياسة الجنائية:
إن الحديث عن واقع السياسة الجنائية بالمغرب يمكن استجلاؤه من خلال الحديث عن أثر هذه السياسة على ظاهرة الجريمة من جهة ومن خلال الاطلاع على بعض النصوص القانونية وعلى جوانب من الممارسة القضائية من جهة أخرى.
· أثر السياسة الجنائية على الظاهرة الإجرامية:
تعتبر الظاهرة الإجرامية ظاهرة سياسية كما يمكن اعتبارها ظاهرة قانونية أو اجتماعية، فالظاهرة الإجرامية تكون سياسية عندما تنصرف الدولة عن توفير الضمانات الكافية لعيش المواطن في سلام واطمئنان وعن تدخلها في إصلاح مرافقها العامة، فإذا لم تقم الدولة مثلا بتوفير فضاءات التدريس والتطبيب والعمل فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تفشي السلوكات الإجرامية من قتل وسرقة وتسول وتشرد...
وتكون الجريمة ذات طبيعة قانونية إذا أخذنا بعين الاعتبار تدخل الدولة في تجريم الأفعال المرتبطة بالقضايا الاقتصادية أو السياسية أو الإدارية، وهذا ما يمكن أن نستشفه فيما نص عليه القانون الجنائي المغربي بخصوص السماح لبعض الفئات بممارسة بعض الأفعال التي يحرمها التشريع الإسلامي كبيع الخمور وممارسة لعب القمار ، دون الفئات الأخرى، فالجرائم التي ترتكب في مثل هذه الحالات تعتبر جرائم قانونية لا علاقة لها بالحياة الاجتماعية.
ومن خصائص هذه الجرائم أنها لا تتوافق مع أهم المبادئ التي تبرر التشريع الجنائي كمبدأ الأصل في الأشياء الإباحة، ومبدأ الشرعية الجنائية.
وهكذا فقد أصبحت السياسة الجنائية بخصوص المبدأ الأول تتجه نحو تضييق الخناق على حرية الأفراد وتصرفاتهم حيث أصبح مبدأ "الأصل في الأشياء الإباحة" لا يساير التطور الذي تعرفه السياسة الجنائية لكونه جاء نتيجة المذهب الليبرالي الذي رافقتقديس الحرية الفردية، بحيث كانت السياسة الجنائية خلال هذه المرحلة تفترض دائما في الشخص مرتكب الجريمة حرية الاختيار في التصرف الغير المشروع الذي صدر منه. هذا التصور الذي ظل يتهاوى -كما سبق بيانه- أمام انتقادات المنهج العلمي في دراسة أسباب الجريمة ونتائجها من جهة، وأمام تدخل الدولة في تنظيم تصرفات الإنسان من جهة أخرى.
ونفس الشيء يصدق على المبدأ الثاني لكونه مجرد وسيلة لتبرير تدخل الدولة في تجريم الأفعال التي لا علاقة لها بالجرائم الاجتماعية التي غالبا ما يتم التجريم فيها انطلاقا من المبادئ الدينية أو الأخلاقية السائدة في المجتمع
· واقع السياسة الجنائية من خلال النصوص القانونية والممارسة القضائية.
تحدد معالم السياسة الجنائية من خلال الخطوط العريضة للتشريع الجنائي وتطبيقاته، وهكذا يمكن القول بأن حدود تدخل القانون الجنائي اتسعت بحكم التطور الحاصل في مختلف مرافق الحياة وما صاحب هذا التطور من اضطرابات مما أدى لتدخل القانون الجنائي ليساعد على التنظيم وعلى حماية المصالح الجديدة التي تستقر في المجتمع.
وتبعا لذلك فقد عرفت الترسانة القانونية الزجرية بالمغرب خلال نهاية العقد الأخير من القرن الماضي تحسنا ملحوظا من خلال إدخال تعديلات همت مجموعة من النصوص القانونية وخلق قوانين جديدة، شكلت منعطفا تاريخيا في المشهد القانوني والحقوقي بالمغرب، ومن أهم التعديلات التي عرفتها القوانين الزجرية نجد ما يتعلق بالتشريع الجنائي الذي هم إصدار قانون جديد للمسطرة الجنائية والذي يعتبر أهم الركائز التي تقوم عليها السياسة الجنائية لارتباطه بحقوق وحريات الأفراد كونه يحدد المقتضيات المتعلقة بكيفية بحث الجريمة، ومتابعة المجرمين وكيفية تطبيق العقوبات والتدابير، غير أن عدم وضوح الصياغة التشريعية لنصوص المسطرة أدى بالبعض إلى اعتبار السياسة الجنائية سياسة عقابية أكثر مما هي وقائية من خلال الخطاب الموجه للقاضي في النص الجنائي الذي يتضح من خلاله وجوب متابعة من ارتكب الجريمة، ومعاقبته بالعقوبات المنصوص عليها ولو كان ذلك على حساب حقوقه أو حقوق غيره وهو ما يفسر أن قانون المسطرة الجنائية لا يراعي مبدأ الشرعية الإجرائية
كما همت هذه التعديلات أيضا نصوص القانون الجنائي وخصوصا المقتضيات المتعلقة بالمرأة والطفلعاكسة بذلك توجهات المشرع الجنائي الذي اتجه من خلالها لإيجاد إجابات جنائية لمختلف الأوجه الحديثة للظاهرة الإجرامية-التي ما فتئت يم بعد يوم- تتسع رقعتها لتشمل بعض المواضيع التي كانت إلى وقت قريب في مأمن من أي تهديد تشكله في مواجهتها الظاهرة الإجرامية.
3. أزمة السياسة الجنائية
من السهل أن نتحدث عن أزمة للسياسة الجنائية في أي تشريع وضعي، لكن من الصعب الحديث عن وجود سياسة جنائية فعالة، وإيجاد حلول للأزمة أو الأزمات التي تصيب سياسة التجريم والعقاب، ذلك أن الوقوف عند العيوب يسهل على المتتبع رصدها ومراقبتها في حين أن إيجاد الحلول لفشل السياسة الجنائية سواء تعلق الأمر بالوقاية أو التجريم أو المنع يحتاج إلى رصد لمظاهر الفشل ومحاولة وضع إستراتيجية فعالة تأخذ في الاعتبار مجموعة من العوامل المتداخلة للحيلولة دون تفشي الجريمة.
إن أزمة السياسة الجنائية لا يمكن الحديث عنها من منظور أحادي، بل إن هاته الأزمة تتداخل فيها مجموعة من العوامل منها ما يرتبط بالجانب الهيكلي التنظيمي ومنها ما هو مرتبط بالجانب الموضوعي، ولذلك فإن ارتفاع نسبة الجريمة وبروز أنواع جديدة من الجرائم وتنامي الإحساس بانعدام الأمن أصبح يسيطر على انشغالات الرأي العام، وجعل نظام العدالة الجنائية في قفص الاتهام إثر التشكيك في النظام الجنائي وفي قدرته على احتواء ظاهرة المد الإجرامي، وقد ذهب بعض الباحثين إلى رصد تمظهرات السياسة الجنائية وحصرها في :
- تصاعد ظاهرة الجريمة مع ما يلاحظ من تصور في محاربتها والوقاية منها.
- انتقاد سير العدالة الجنائية بسبب عدم السرعة والفعالية نتيجة تضخم عدد القضايا المعروضة على المحاكم وهو ما أضر بنجاعتها وفعاليتها.
- تصاعد وثيرة الاعتقال باعتماد نظرة مفادهاأنه وسيلة ناجعة للحد من الجريمة وهو ما أدى إلى اكتظاظ مهول داخل المؤسسات السجنية التي لم يعد بإمكانها مواكبة أهدافها التربوية والإصلاحية.
- إن العقوبات البديلة لم تؤد دورها في إصلاح الجاني، الأمر الذي دفع ببعض المدارس الفقهية وبأنظمة جنائية إلى التفكير في إقرار سياسة جنائية تهدف إلى إعادة الوظيفة العقابية للعقوبة.
- التأكيد على اعتبار السجن وسيلة لحماية المجتمع عوض الدفاع عن المنحرف في مواجهة الدولة.
- غياب الشروط الكفيلة بحماية ضحايا الجريمة وتقديم المساعدات الممكنة لهم منذ وقوع الجريمة إلى نهاية المحاكمة.
- عدم تفعيل دور المؤسسات المخصصة لإيواء ذوي العاهات العقلية أو الأحداث.
ويمكن أن نشير إلى بعض ملامح هذه الأزمة من خلال ظاهرة الجنوح البسيط إذ تشير الإحصائيات إلى أن هذا الصنف من الجرائم أصبح يشغل حيزا واسعا من المنظومة التشريعية الجنائية، فالجرائم البسيطة المعاقب عليها بالغرامة أو الحبس أقل من سنتين تبلغ حوالي 40 في المائة من المجموع العام للجرائم، وهو ما يعكس قصور السياسة الجنائية المغربية في معالجة هذا الصنف، ووجود خلل في استيعاب مضامين توجهات السياسة الجنائية المرسومة والتطبيق السيئ لاستراتيجياتها والذي يتمظهر أساسا في غياب التنسيق بين جهاز النيابة العامة وقضاء الحكم في تطبيق السياسة الجنائية. ففي الوقت الذي أصبح التفاؤل يعم الأوساط الحقوقية والمهتمة ببداية تفهم سلطة الاتهام لجديد السياسة الجنائية ، كما هو الأمر بشأن تراجع معدلات الاعتقال وسلوك مساطر الصلح بين أطراف الخصومة الجنائية وتفعيل إجراءات الكفالات المالية والعينية لضمان الحضور، نجد أنفسنا أمام قضا الحكم لا يساير هذا التوجه الجديد ويعطي الأولوية للعقوبات السالبة للحرية عوضا عن إيجاد بدائل جديدة لها كالعقوبات المالية والإدارية...
ومن مظاهر الخلل أيضا في استيعاب مضامين السياسة الجنائية عدم تفعيل تقنية التواصل مع المجرم باعتباره محور وأساس الظاهرة الإجرامية.
لقد تبين لنا من خلال تتبع المراحل التي مرت بها السياسة الجنائي في معالجتها لظاهرة الجريمة أن الدولة وحدها لا تستطيع النهوض بهذه المسؤولية، وأن التصدي للظاهرة الإجرامية يقتضي إشراك المجتمع بمختلف فعالياته. وهذه التصورات تجد أساسها في حركة الدفاع الاجتماعي التي تركز على ضرورة تجاوز التصور التقليدي الذي يلقي عبء مكافحة الجريمة على الدولة وحدها.
ويبدو أنه رغم التطور الذي عرفته السياسة الجنائية في معالجتها للظاهرة الإجرامية فإن نتائجها بقيت محدودة الشيء الذي تؤكده الإحصائيات التي تشير إلى ارتفاع نسبة الإجرام، مما دفع بعض المهتمين إلى المناداة بضرورة الرجوع إلى السياسة العقابية التقليدية التي تعتمد أسلوبي الزجر والردع. ونعتقد أن السياسة الجنائية بفروعها الثلاثة المتمثلة في التجريم والعقاب والمنع لا يمكن أن تصل إلى القضاء على الظاهرة الإجرامية بالنظر إلى ارتباط الجريمة وتطورها بتغير الظروف والبيئات واختلاف الزمان والمكان.